الوجه الأمريكي المزدوج- الوساطة والشراكة في حروب المنطقة

المؤلف: د. أحمد العطاونة08.26.2025
الوجه الأمريكي المزدوج- الوساطة والشراكة في حروب المنطقة

منذ اندلاع الحرب العدوانية على قطاع غزة، وما أعقبها من صراعات إقليمية متلاحقة، اضطلعت الولايات المتحدة بدور مزدوج؛ فهي من ناحية، تتظاهر بالوساطة ورعاية المفاوضات الرامية إلى إخماد أوار هذه الحروب، بل وتذهب إلى أبعد من ذلك، فتقدم نفسها كضامن لتنفيذ الاتفاقيات المبرمة وشريك في مراقبة التقيد ببنودها في بعض الحالات.

لكن، وفي المقابل، لا تنفك الولايات المتحدة عن ممارسة دورها الحقيقي كشريك أصيل وداعم مطلق للاحتلال الصهيوني في شن هذه الاعتداءات، فهي تمنحه الرعاية والمساندة المطلقة في جميع الظروف والأحوال، وقد وصل بها الأمر إلى حد التدخل العسكري المباشر والصريح في العدوان على اليمن وإيران.

وإذا ما تأملنا الأمور بمنطق وعقلانية، نجد أن هذه الحروب ما هي إلا حروب تخوضها الولايات المتحدة بالوكالة في هذه المنطقة الحيوية، وأن الأداة المحورية والأنشط والأكثر فاعلية في يدها هي جيش الاحتلال الإسرائيلي، وأن الكيان الصهيوني ليس إلا القاعدة العسكرية المتقدمة و"حاملة الطائرات" العملاقة التي لا تضاهيها حاملة أخرى في العالم.

لقد اضطلعت الولايات المتحدة في هذه الحروب بأدوار متنوعة ومستويات مختلفة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك تبعًا لما تقتضيه طبيعة الحرب ومقتضيات إدارة المعارك، فتارة تركز جهودها على الدعم العسكري، وتارة أخرى على المساعي السياسية والدبلوماسية، أو غير ذلك من الأدوار التي تصب في خانة تحقيق أهدافها من وراء هذه الحروب.

فعندما استدعى الأمر، هرعت حاملات الطائرات والسفن الحربية والمدمرات التابعة لها لتقديم الدعم والإسناد، وقامت بإمداد الكيان الصهيوني بشتى أنواع الذخائر والعتاد الحربي، وعندما اقتضت الضرورة التدخل بالقصف المباشر –كما حدث في اليمن وإيران- انطلقت طائراتها من قواعد مختلفة حول العالم لتنفيذ هذه المهمة.

وإذا ما استلزم الأمر القيام بعمل دبلوماسي أو قانوني أو سياسي، قامت الآلة السياسية الأميركية بتفعيل أدواتها لتنفيذ المطلوب، سواء في أروقة مجلس الأمن والأمم المتحدة، أو عبر وزارة الخارجية وفريق الأمن القومي.

ومن بين الأدوار التي اضطلعت بها الولايات المتحدة في إدارة هذه الحروب، وبالذات الحرب الشعواء على قطاع غزة –والذي قد يكون أهمها- هو لعب دور الوسيط لإبرام اتفاقيات وقف إطلاق النار، والضامن لتنفيذها والالتزام ببنودها، وهو ما يعد قمة المفارقة والسخرية في هذه الحرب.

ومما يبرهن على أن عملية المفاوضات ودور الولايات المتحدة فيها كوسيط وضامن في سياق الحرب على غزة، لم تكن تهدف إلى إنهاء الحرب ووضع حد للإبادة الجماعية والمجازر المروعة بحق المدنيين العزل والأبرياء، بل كانت جزءًا لا يتجزأ من إدارة المعركة، مجموعة من المعطيات التي نوجز أهمها فيما يلي:

  • التوافق التام مع الحكومة الإسرائيلية على الأهداف الكلية المعلنة للحرب، وعلى رأسها القضاء المبرم على المقاومة الفلسطينية، وتفكيك بنيتها السياسية والعسكرية، والسيطرة الكاملة على قطاع غزة، الأمر الذي يجعل عملية التفاوض برمتها وكل النصوص التي يتم تقديمها لا تؤدي إلى وقف دائم لإطلاق النار، وانسحاب إسرائيلي شامل وكامل من القطاع، ولا تسمح للفلسطينيين بالتوافق على إدارة محلية فلسطينية لقطاع غزة، وإنما تهدف فقط إلى الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية، وترك نهايات الحرب مفتوحة على مصراعيها.

وهو ما يعني حتمية استمرار المجازر المروعة، والمجاعة المتفاقمة، والمعاناة اليومية التي لا تطاق، وذلك على أمل تحقيق ما تم الإعلان عنه من أهداف خبيثة، سواء في موضوع تهجير الفلسطينيين قسرًا من أرضهم، أو تصفية المقاومة الباسلة، أو السيطرة المطلقة على القطاع المحاصر.

  • في الوقت الذي تتولى فيه الإدارة الأميركية، سواء في عهد بايدن أو ترامب، التحدثَ عن البحث عن مخرج سياسي للأزمة، وبذل الجهود الحثيثة لإنهاء الحرب، وضرورة التزام إسرائيل بالمعايير الدولية المتعارف عليها في حروبها، والاهتمام الظاهري بمساعدة السكان المدنيين وتقديم الإغاثة العاجلة، وفي ذات الوقت، نجدها تقدم كل أشكال الدعم العسكري والسياسي غير المحدود للاحتلال، وتستخدم حق النقض الفيتو أكثر من مرة في مجلس الأمن الموقر؛ للحيلولة دون صدور قرار ملزم بوقف الإبادة الجماعية الممنهجة في قطاع غزة، مما يعني بشكل قاطع ضمان استمرار الحرب.
  • التبني المطلق والأعمى من قبل الإدارة الأميركية للرواية الإسرائيلية الملفقة خلال عملية المفاوضات، والعمل جنبًا إلى جنب مع حكومة الاحتلال كفريق واحد متكامل حتى في أصغر التفاصيل، وفي صياغة نصوص الاتفاقيات المقترحة، وبناء التكتيكات التفاوضية الخادعة، التي تهدف في نهاية المطاف إلى مساندة إسرائيل في تحقيق مآربها الخبيثة، وحشر قوى المقاومة الفلسطينية وحركة حماس في الزاوية الضيقة التي تجعل من الصعب عليها رفض ما يطرح عليها من صيغ ومقترحات، كي لا تبدو في نظر الرأي العام وكأنها تتحدى رغبة شعبها في وقف العدوان الغاشم، وتخفيف المعاناة التي لا تحتمل وحقن الدماء الزكية.

ففي أكثر من مناسبة، كانت نصوص الاتفاقيات المتعلقة بوقف الحرب تُعد من قبل الطرف الإسرائيلي، أو بتوافق إسرائيلي أميركي مسبق، ثم يتم دفعها قسرًا إلى حركة حماس.

ولعل ما حدث مع مقترح بشارة بحبح الذي يمثّل ستيف ويتكوف في الجولة الأخيرة من المفاوضات لهو خير دليل على ذلك، حيث قدّم مقترحًا وافقت عليه المقاومة الفلسطينية بعد تمحيص ونقاش مستفيض معه، ثم رُفض جملة وتفصيلاً من قبل الجانبين الأميركي والإسرائيلي، واتُّهمت حركة حماس بالتعنّت والتصلب في مواقفها وعدم الموافقة على النص الأصلي الذي قدّمه ويتكوف.

  • إصرار الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل على رفض جميع الصيغ والمقترحات، التي قدمت من قبل الفلسطينيين، أو من غيرهم، الداعية إلى وجود أطراف أخرى ضامنة للمفاوضات والاتفاقيات، فقد تم الرفض القاطع والمستمر لأن تكون الصين أو روسيا أو تركيا جزءًا من هذه العملية، وكان يتم الإصرار والتأكيد على أن الولايات المتحدة الأميركية فقط –بالإضافة إلى الوسطاء المصريين والقطريين– هي الضامن الوحيد للعملية التفاوضية برمتها، وذلك حتى تبقى إسرائيل قادرة على تنفيذ ما تمليه عليها رغباتها وأجندتها الخاصة ورؤيتها لمستقبل هذه الحرب وهذا الصراع، بلا حسيب ولا رقيب.
  • رفض كل الصيغ التي قدمت بهدف وضع حد نهائي لهذه الحرب الطاحنة، حيث تسربت أنباء عن أن الفلسطينيين قدموا العديد من الصيغ الكلية التي اتسمت بالمرونة والواقعية السياسية، كان آخرها ما أعلنت عنه حركة حماس وأطلقت عليه مسمى "اتفاق الرزمة الشاملة"، الذي يمكن أن يضع حدًا قاطعًا ونهائيًا لهذه الإبادة الجماعية البشعة.

ويتضمن هذا المقترح تبادلًا كاملًا وفوريًا للأسرى من الطرفين، ووقفًا نهائيًا لإطلاق النار، وانسحابًا كاملًا لقوات الاحتلال الغاشم من قطاع غزة، بالإضافة إلى التوافق على تشكيل إدارة فلسطينية للقطاع وهدنة طويلة الأمد، ودور وضمانات لأطراف عربية أو إسلامية أو دولية لتطبيق بنود الاتفاق.

إلا أن كل ما قدم من مقترحات قوبل بالرفض الأميركي القاطع قبل أن يرفضه الجانب الإسرائيلي، ولم يسمح له بأن يكون جزءًا من أي من نصوص الاتفاقيات التي تم التباحث بشأنها.

  • ترفض الولايات المتحدة الأميركية رفضًا باتًا –ولم تعمل ولو لمرة واحدة على الإطلاق– أية مقاربة متكاملة تضمن إدارة فلسطينية ذات سيادة لقطاع غزة، وإنما ذهبت بعيدًا في التهديد أو التلويح بخيارات تخدم الرؤية الإسرائيلية الاستعمارية البغيضة، بل أحيانًا تذهب أبعد مما يطرحه الإسرائيلي نفسه، من قبيل تهجير الفلسطينيين من ديارهم قسرًا أو السيطرة الكاملة على قطاع غزة بالقوة وتحويله إلى ريفييرا عصرية، وغيرها من الأطروحات غير الواقعية التي تتجاهل وتضرب عرض الحائط بكل الحقوق الفلسطينية المشروعة، بل وتهدد الوجود الفلسطيني برمته والقضية الفلسطينية العادلة، وهو ما ينسجم تمامًا مع الرغبة والإرادة الصهيونية المتطرفة.
  • تقديم المساندة الأميركية المستمرة واللامحدودة لإسرائيل على المستوى الدولي في الملف القانوني، وممارسة التهديد والضغط الشديدين على كل من يمارس ضغطًا حقيقيًا على إسرائيل يمكن أن يساهم في وقف هذه الحرب الشعواء عن طريق محكمة العدل الدولية، أو المحكمة الجنائية الدولية، أو غيرها من المحاكم الدولية والمحلية.

ولعل الضغوط الهائلة التي مورست على دولة جنوب أفريقيا الشقيقة والعقوبات الجائرة التي فرضت على المحكمة الجنائية الدولية وموظفيها –الذين يعملون جاهدين على جلب قادة الاحتلال الصهيوني إلى المحكمة لارتكابهم جرائم إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني الأعزل– لهو مؤشرٌ جليٌّ وواضح على ذلك.

هذه الشواهد والمعطيات مجتمعة تقودنا إلى خلاصة لا لبس فيها، وهي أن الولايات المتحدة الأميركية هي طرف محوري وأساسي في هذا العدوان السافر على الشعب الفلسطيني الصامد، بل وعلى المنطقة بأسرها، وتهدف من خلاله إلى إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط برمتها بما يخدم الهيمنة الأميركية المطلقة من جهة، وبما يضمن ترسيخ دور مركزي للاحتلال الصهيوني في هذه الهيمنة من جهة أخرى.

وتبدو الحروب المتفاقمة في منطقة الشرق الأوسط أنها ما هي إلا عملية إعادة إنتاج وتجديد لهذه الهيمنة المتغطرسة، وتأكيد قاطع على أن الولايات المتحدة هي القوة العالمية الوحيدة التي تتفرد، دون غيرها من القوى العظمى، بالتدخل السافر في قضايا الشرق الأوسط والعالمَين: العربي والإسلامي، كما تهدف أيضًا إلى إعادة إنتاج إسرائيل كأداة استعمارية إمبريالية فعالة وباطشة في المنطقة، وبما يخدم الهيمنة الأميركية لعقود مديدة قادمة.

هذه القراءة المتأنية توجب علينا عدم الثقة بتاتًا بالرعاية الأميركية للمفاوضات المزعومة، وتدعو إلى ضرورة العمل الجاد والمثابر والبحث الفلسطيني الدؤوب والمستمر عن بدائل ووسطاء مختلفين، وضرورة توفير دعم عربي وإسلامي حقيقي وفاعل للفلسطينيين لكي يتمكنوا من الإفلات من قبضة وهيمنة الوساطة والرعاية الأميركية الخادعة، ذلك أن الخطر الناجم عن هذه الرعاية والهيمنة لا يتهدد الفلسطينيين وحدهم، بل يمتد ليشمل المنطقة بأسرها، ولعل ما يحدث في العديد من دول المنطقة من فوضى وعدم استقرار، شاهدٌ أكيد على ذلك.

إن لدى العرب والمسلمين الكثير والكثير مما يمكن أن يقوموا به لدرء الخطر المحدق، ولكن ذلك يتطلب ابتداءً إدراكًا عميقًا وإقرارًا صريحًا بحجم الخطر المستقبلي الذي يتهدد هذه الدول وهذه المنطقة لكي يتم التحرك بشكل جاد استنادًا إلى هذا الإدراك الواعي.

فإذا ما أقرت الدول العربية والإسلامية بأن مصالحها الإستراتيجية العليا وأمنها القومي ومستقبلها رهن الخطر ومحل تهديد حقيقي، عندها يمكنها أن تتحرك بشكل جماعي ومنظم للحد من الآثار الكارثية المتوقعة نتيجة السياسات الأميركية المنحازة، سواء على القضية الفلسطينية العادلة، أو على دول وشعوب المنطقة قاطبة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة